معنى النَفَس:
قال تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ...) هذه الآية واردة في سورة التكوير، وهي واحدة من الآيات التي تحتاج منا وقفة تأمل وامعان لما تحمل من إشارات مادية ومعنوية... اذ دائماً اتسائل عن كلا الجانبين حتى وقع بيدي كتاب "منة المنان" لسماحة السيد محمد الصدر الذي تناول فيه توضيحاً لهذه الاية بشكل مغاير عن التفاسير الأخرى، ونحن بدورنا سنضع بين ايديكم التوضيح بالتفصيل.
قال الراغب في معنى النَفَس: والنَفَس الريح الداخل والخارج في البدن من الفم والمنخر، وهو كالغذاء للنفس، وبانقطاعه بطلانها. ويُقال للفرج نفس ... يُقال: اللّهمّ نفّس عني، أي: فرّج عني، وتنفّست الريح إذا هبّت طيّبة ... وتنفّس النهار عبارةٌ عن توسّعه[1].
أقول: الظاهر:
أنَّ المعنى الأصلي للنَفَس هو التنفّس الذي يصعد وينزل للإنسان والحيوان، ومنه سمّيت النفس، فكأنَّهم كانوا يتصوّرون أنَّ النَفَس هو النَفس، أو باعتبار توقّف استمرار النَفْس على النَفَس.
ويُقال للفرج نفس؛ لأنَّ الإنسان حين يحصل له الفرج يتنفّس نفساً عميقاً باعتبار ملازمته للتنفّس غالباً، ومنه: اللّهمّ نفّس عنّي، أي: فرّج عني.
وإذ كان التنفّس بالهواء أو الريح سُمّيت الريح نفساً أو سمّيت الريح الطيّبة نفساً، فقيل: تنفّست الريح إذا هبّت طيّبة.
وقول الراغب: (تنفّس النهار عبارة عن توسّعه، وقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي: توسّع) لا يخلو من إشكالٍ؛ فإنَّه لو كان المراد من قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي: توسّع كان من باب المجاز لا الحقيقة؛ لأنَّ التوسّع لم يُؤخذ في مفهوم اللفظ أصلًا، والمجاز بابٌ واسعٌ، وإنَّما يُطلب المعنى الحقيقي للآية، ولا يصحّ حملها على المجاز؛ لأنَّه خلاف الأصل. أضف إلى ذلك: أنَّ الآية عبّرت بالصبح ولم تعبّر بالنهار، والصبح عرفاً غير النهار؛ إذ الصبح ما بين الطلوعين ــ طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ــ وهو غير النهار؛ إذ النهار يبدأ بطلوع الشمس، أي: إنَّهما متباينان، ولا يجتمعان إطلاقاً.
إن قلت:
إنَّ أوّل النهار صبحٌ أيضاً.
قلت: نعم، لكن الكلام: هل الإطلاق مجازي أم حقيقي؟ وفي حدود الأُطروحة اللغويّة القائلة بأنَّ الصبح ما بين الطلوعين يكون هذا الاستعمال استعمالًا مجازيّاً، وإنَّما يُسمّى أوّل النهار صباحاً؛ لأنَّه قريبٌ من الصبح.
بقي أن نفهم الوجه في التعبير بقوله: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ واختيار مادّة (التنفّس) مع أنَّه يمكن التعبير بألفاظٍ أُخر، كالصبح إذا أقبل أو إذا حصل، ونحو ذلك.
وقبل الجواب عن ذلك لابدّ من الالتفات إلى أنَّ قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ بقوّة قوله: (والفجر إذا تنفّس)؛ لأنَّنا ذكرنا أنَّ الصبح ما بين الطلوعين يعني: الفجر وآثاره، وهو النور الذي يوجد في الأُفق من طرف الشرق.
وحينئذٍ نقول:
يمكن الإشارة إلى عدّة أُطروحات في بيان الوجه في التعبير المزبور:
الأُطروحة الأُولى:
ما اختاره السيّد الطباطبائي (قدس سره) من أنَّ الليل بمنزلة التعب والصبح بمنزلة الفرج، فكأنَّ الفجر نفس الليل[2].
الأُطروحة الثانية:
ما يُستفاد أيضاً من سياق عبارته (قدس سره) من تمثيل الضوء الخافت المنتشر عند الفجر بالنفس[3]، أي: الظاهر: أنَّ الليل بمنزلة جسم الإنسان والضوء بمنزلة نفسه، مع أن هذا كلّه من باب المجاز لا الحقيقة.
الأُطروحة الثالثة:
ما نقله الزمخشري في تفسيره «الكشّاف» قائلًا: فإن قلت: ما معنى تنفّس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روحٌ ونسيمٌ، فجعل ذلك نفساً له على المجاز[4].
ويُلاحظ: أنَّ سبب النسيم ليس الفجر، وإن أفادت هذه الأُطروحة بأنَّ هذا الأمر غالبي لا دائمي، أي: في كثيرٍ من الليالي يحصل شيءٌ من هذا القبيل.
الأُطروحة الرابعة:
أن نرى أنَّ حصول النسيم دائمي لا غالبي، ولذا يعتبره البعض علامةً على طلوع الفجر، ويعتبره البعض الآخر امتحاناً للناس، فقد قيل: إنَّ الله سبحانه يرسل ما بين الطلوعين ريحاً طيّباً امتحاناً للناس، فيرى من يقوم إلى الصلاة ومن يخلد للنوم. وقد يعتبره البعض أمراً طبيعيّاً؛ لأنَّ الأرض أثناء الليل تتبخرّ حرارتها المكتسبة في النهار، فمن الطبيعي أن يكون وجه الأرض بارداً، ومن هنا يكون الهواء أقرب إلى البرودة منه إلى الحرّ.
اقرأ: قوانين العقل الباطن؟
الأُطروحة الخامسة:
أنَّ تنفّس، أي: وجد؛ لأنَّ الطفل إذا وجد في الدنيا بعد خروجه من الرحم يبدأ بالتنفّس، فكذلك الصبح، وكأنَّه ميلاد نهارٍ جديدٍ، وهو ميلادٌ بنحو المجاز لا الحقيقة.
ومن هنا ينبغي أن نلاحظ أنَّ المصادر اتّفقت على المجازيّة في نسبة التنفّس إلى الصبح[5].
أقرأ: كيف تجعل حياتك افضل؟
المصادر:
ــــــــــــــ
[1] مفردات ألفاظ القرآن: 523، مادّة نفس.
[2] راجع الميزان في تفسير القرآن 217: 20، تفسير سورة التكوير.
[3] المصدر السابق.
[4] الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 711: 4، تفسير سورة التكوير.
[5] منة المنان في الدفاع عن القران، السيد محمد الصدر، ج5، ص71 ومابعدها.
موضوع فوق الرائع ويستحق الف اعجاب وتعليق ... شكرا لكم ولما ترفدوننا بالفكر القيم والمعلومة الجميلة.
ردحذفشكرا لكم وربي يرعاكم ويحفظكم .
حذفرائعة
ردحذف